الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} اللام هنا يجوز أن تكون زائدة أو للتعليل ويكون المفعول على هذا محذوف، فإن قيل: كيف عطف أمرت على أمرت والمعنى واحد؟ فالجواب أن الأول أمر بالعبادة والإخلاص والثاني أمر بالسبق إلى الإسلام فهما معنيان اثنيان وكذلك قوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ} ليس تكرارًا لقوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} لأن الأول إخبار بأنه مأمور بالعبادة الثاني إخبار بإنه يفعل العبادة. وقدم اسم الله تعالى للحصر واختصاص العباده به وحده {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتخلية لهم على ما هم عليه {ظُلَلٌ} جمع ظلة بالضم، وهو ما غشي من فوق كالسقف، فقوله: {مِّن فَوْقِهِمْ} بيّن وأما {وَمِن تَحْتِهِمْ} فسماه ظلة لأنه سقف لمن تحتهم؛ فإن جهنم طبقات وقيل: سماه ظله لأنه يلتهب ويصعد من أسفلهم إلى فوقهم.{والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} قيل: إنها نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير، إذ دعاهم أبو بكر الصديق إلى الإيمان فآمنوا، وقيل: نزلت في أبي ذر وسلمان، وهذا ضعيف، لأن سلمان إنما أسلم بالمدينة والآية مكية والأظهر أنها عامة، والطاغوت كل ما عبد من دون الله، وقيل: الشياطين.{الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} قيل: يستمعون القول على العموم فيتبعون القرآن، لأنه أحسن الكلام وقيل: يستمعون القرآن فيتبعون بأعمالهم أحسنه من العفو الذي هو أحسن من الانتصار، وشبه ذلك وقيل: هو الذي يستمع حديثًا فيه حسن وقبيح فيتحدّث بالحسن ويكف عما سواه، وهذا قول ابن عباس، وهو الأظهر وقال ابن عطية: هو علم في جميع الأقوال؛ والقصد الثناء على هؤلاء ببصائر ونظر سديد يفرقون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، فيتبعون الأحسن من ذلك، وقال الزمخشري مثل هذا يكون الكلام جملة واحدة تقديره: أفمن حق عليه كلمة العذاب أأنت تنقذه، فموضع من في النار موضع المضمر، والهمزة في قوله: {أَفَأَنتَ} هي الهمزة التي في قوله: {أَفَمَنْ} وهي همزة الإنكار كررّت للتأكيد، والثاني أن يكون التقدير أفمن حق عليه العذاب تتأسف عليه، فحذف الخير ثم استأنف قوله: {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار}؟ وعلى هذا يوقف على العذاب، والأول أرجح لعدم الإضمار.{فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} معنى سلكه أدخله وأجراه، والينابيع: جمع ينبوع وهو العين، وفي هذا دليل على أن ماء العيون من المطر {مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي أصنافه كالقمح والأرز والفول وغير ذلك، وقيل: ألوانه الخضرة والحمرة وشبه ذلك، وفي الوجهين دليل على الفاعل المختار وَرَدٌ على الطبائع الملحدين.{أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} تقديره: أفمن شرح الله صدره كالقاسي قلبه، وروي أن الذي شرح الله صدره للإسلام عليّ بن أبي طالب وحمزة، والمراد بالقاسية قلوبهم أبو لهب وأولاده، واللفظ أعم من ذلك {مِّن ذِكْرِ الله} قال الزمخشري: مِنْ هنا سببية أي قلوبهم قاسية من أجل ذكر الله، وهذا المعنى بعيد، ويحتمل عندي أن يكون قاسية تضمن معنى خالية، فلذلك تعدى بمن، أن قلوبهم خالية من ذكر الله.{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} يعني القرآن {كِتَابًا} بدل من أحسن أو حال منه {مُّتَشَابِهًا} معناه هنا أنه يشبه بعضه بعضًا في الفصاحة والنطق بالحق وأنه ليس فيه تناقض ولا اختلاف {مَّثَانِيَ} جمع مثان أي تثنى فيه القصص وتكرر، ويحتمل أن يكون مشتقًا من الثناء، لأنه يثنى فيه على الله، فإن قيل: مثاني جمع فكيف وصف به المفرد؟ فالجواب: أن القرآن ينقسم فيه إلى سور وآيات كثيرة فهو جمع بهذا الاعتبار، ويجوز أن يكون كقولهم: برمة أعشار، وثوب أخلاق، أو يكون تمييزًا من متشابهًا كقولك: حُسْن شمائل {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} إن قيل: كيف تعدّى تلين بإلى؟ فالجواب أنه تضمن معنى فعل تعدى بإلى كأنه قال تميل أو تسكن أو تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله. فإن قيل: لم ذكر الجلود أولًا وحدها ثم ذكر القلوب بعد ذلك معها؟ فالجواب: أنه لما قال أولًا تقشعر ذكر الجلود وحدها، لأن القشعريرة من وصف الجلود لا من وصف غيرها، ولما قال ثانيًا تلين ذكر الجلود والقلوب، لأن اللبن توصف به الجلود والقلوب: أما لين القلوب فهو ضدّ قسوتها، وأما لين الجلود فهو ضد قشعريرتها فاقشعرت أولًا من الخوف، ثم لانت بالرجاء {ذَلِكَ هُدَى الله} يحتمل أن تكون الإشارة إلى القرآن أو إلى الخشية واقشعرار الجلود.{أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب} الخبر محذوف كما تقدم في نظائره تقديره: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب ومعنى يتقي يلقى النار بوجهه ليكفها عن نفسه، وذلك أن الإنسان إذا لقي شيئًا من المخاوف استقبله بيديه، وأيدي هؤلاء مغلولة، فاتقوا النار بوجوههم {ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون من الكفر والعصيان.{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نصب على الحال أو بفعل مضمر على المدح {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي ليس فيه تضادّ ولا اختلاف، ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر، وقيل: معناه: غير مخلوق وقيل: غير ذي لحن، فإن قيل: لم قال: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} ولم يقل غير معوج؟ فالجواب: أن قوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أبلغ في نفي العوج عنه كأنه قال: ليس فيه شيء من العوج أصلًا.{رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} أي متنازعون متظالمون، وقيل: متشاجرون وأصله من قولك: رجل شكس إذا كان ضيق الصدر، والمعنى ضرب هذا المثل لبيان حال من يشرك بالله ومن يوحده، فشبه المشرك بمملوك بين جماعة من الشركاء يتنازعون فيه، والمملوك بينهم في أسوء حال، وشبه من يوحد الله بمملوك الرجل واحد، فمعنى قوله: {سَلَمًا لِّرَجُلٍ} أي خالصًا له وقرئ {سلمًا} بغير ألف والمعنى واحد.{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} في هذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، ووعيد للكفار، فإنهم إذا ماتوا جميعًا وصاروا إلى الله فاز من كان على الحق وهلك من كان على الباطل، وفيه أيضًا إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم سيموت، لئلا يختلف الناس في موته كما اختلفت الأمم في غيره. وقد جاء أنه لما مات صلى الله عليه وسلم أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه موته حتى احتج عليه أبو بكر الصديق بهذه الآية فرجع إليها.{تَخْتَصِمُونَ} قيل: يعني الاختصام في الدماء، وقيل: في الحقوق والأظهر أنه اختصام النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار في تكذيبهم له، فيكون من تمام ما قبله. ويحتمل أن يكون على العموم في اختصام الخلائق فيما بينهم من المظالم وغيرها. اهـ.
|